الدكتور محمد إقبال الخضر
this site the web

دور الدولة عند ابن خلدون [3]




دور الدولة عند ابن خلدون [3]
دراسة مقارنة
إعداد الدكتور محمد إقبال
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد




نشوء ظاهرة اقتران التضخم بالبطالة والتخلي عن الاعتدالية الكنزية :
لكن في بداية السبعينيات ومع حرب أكتوبر سنة 1973 شهد الاقتصاد العالمي أزمة أخرى عقب ارتفاع سعر النفط. حيث برزت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة بناء على ما هو معهود على مستوى الأزمات الدورية، وتتمثل جدة هذه الأزمة في اقتران التضخم بالبطالة. وهو اقتران نادر الحدوث في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي، ولم يسبق أن تمت مواجهته بالثقل الذي ظهر به.
 المنطق الليبرالي القاضي بوجوب إطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهماتها ونفوذها، وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها. هذا الحل هو ما تم الاصطلاح على تسميته بالنيوليبراليزم (الليبرالية الجديدة).
إذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد مظاهرها المطلقة. والتي تبدو جلية في تفسير آدم سميث لليد الخفية التي لا تتطلب تدخل الحكومة في الاقتصاد ، فالاقتصاد يحل مشاكله بنفسه .
ومن أهم نظريات هذه الليبرالية قانون ( ساي ) الذي يفترض أن العرض يولد طلبه بنفسه. بمعنى أن الدخل المشتق من إنتاج بيع السلع بواسطة البعض يتيح لهم شراء سلع أنتجها آخرون. وبما أن كل الناس بحاجة إلى شراء سلع فإنهم يسعون إلى إنتاج بعض السلع لتدر عليهم دخلا يمكنهم من شراء ما يرغبون. وهكذا فإن سوق المنتجات يميل دائماً بالضرورة في حال التوازن. ويكتسب العاملون دخولاً لكي يتمكنوا من شراء ما يرغبون من مختلف المنتجات وهكذا بالعمل و إنتاج السلع يخلق هؤلاء العاملون الدخول التي تتيح لهم شرا ء هذه المنتجات.
أما بالنسبة لسوق النقد التقليدية فإنها تعمل  على أساس أن بعض الدخل لا  يستهلك ، لذا فإنه يدخل سوق النقد على شكل ادخار ، هذا الادخار يعاد مرة أخرى إلى الاقتصاد على هيئة استثمار ( يعني زيادة في رأس المال ) عندما ما يتم اقتراضه . والفائدة التي تدفع بواسطة المقترضين المدخرين تضمن ألا يكون هناك ادخار خامل، ولذلك فسوق النقد هو الآخر يقيم توازناً بتعديل معدل الفائدة .
والفائدة التي تدفع للمدخرين تحفزهم على إقراض النقود. وعندما يكون معدل الفائدة عالياً يرغب الناس في الادخار أو الاقتراض أكثر. بينما في الجانب الأخر من السوق تقل رغبة المقترضين في الاقتراض عندما يكون معدل الفائدة عاليا وهكذا فإن السوق يميل إلى إعادة التوازن تبعاً لتأثير معدل الفائدة .
كذلك تفترض النظرية التقليدية بالنسبة لمرونة الأسعار و الأجور ، أن جميع الأسواق تستعيد التوازن بسبب حدوث التعديلات في الأسعار و الأجور التي هي مرنة بطبيعتها ( كما تفترض النظرية التقليدي الليبرالية ) . فمثلا إذا وجد فائض في العمالة أو المنتجات فإن الأجور أو أسعار المنتجات ستتعادل بحيث تمتص الفائض.
وطالما أن الأسعار و الأجور مرنة ( خالية من تدخل الدولة أو النقابات والمنظمات ) فإن السوق يميل لاستعادة التوازن. وكمثال على ذلك إذا كان هناك الكثير من البطالة فإن الشركات يمكنها استئجار عمالة أكثر بأجور أقل ، واستخدام عمالة أكثر يقلل تماماً من البطالة.




تقييم النظرية التقليدية من وجهة نظر كينزية :
النظرية الكينزية للتوظيف تقوم على أساس نقد النظرية التقليدية . في هذا النقد قال كينز بأن المدخرين والمستثمرين لديهم خطط غير متوافقة لا تضمن حدوث توازن في سوق المال ، وأن الأسعار والأجور تميل لأن تكون غير مرنة وأنه لا يمكن حدوث توازن في سوق المنتجات والعمل ، وأنه قد حدثت فترات من البطالة الشديدة ،التي تنفيها النظرية التقليدية. ولقد كان من العسير القول بأن البطالة الإرادية فقط هي التي حدثت فقد كان هناك الملايين من العمال بدون عمل
ولقد أظهر كينز أن المدخرين والمستثمرين مجموعتان منفصلتان ليستا بالضرورة متداخلتين : فهناك جهات مالية وسيطة (مصارف) بينهما . وعند وجود ركود فإن الاستثمار لا يتساوى مع الادخار لأنه رغم أن سعر الفائدة يكون منخفضاً جداً فإنه يكون مايلي :
1)    يكون لدى المقترضين تطلعات شرائية هزيلة.
2)    يكون لدى المصارف تخوف من التسليف تحسباً من الإفلاس المحتمل .
3)    يكون لدى المدخرين رغبة في الانتظار أملاً في الحصول على عائد أعلى. وهذا يسبب فخ سيولة : بعض الادخار يكون عاطلاً .
المصارف تتسم بالتعطل التام عند إعطائها قروضا للأعمال في الأوقات التي تكون فيها الأحوال الاقتصادية غير واعدة ـ غير أن إحجامهم عن إعطاء القروض في حد ذاته يمثل عنصراً مساهما في تدهور الاقتصاد .
نظرة كينز لمرونة الأسعار والأجور :
يقول كينز بأن الأسعار والأجور ليست مرنة كما صورته النظرية التقليدية . حيث تميل الأجور لأن تكون غير مرنة إلى الجانب السلبي لأن العمال لن يرضوا بأجور لا توف بالمعيشة الكافية ، وهذا يسانده نشاط النقابات والمنظمات . وإن كانت الأجور منخفضة جداً فإن البطالة ستحدث ، لأن الدخول قليلة وبالتالي فالطلب قليل . أما بالنسبة للأسعار فإن الشركات التي تنتج منتجات كبيرة تفضل أن تخفض إنتاجها وتسرح العمال على أن تخفض الأسعار. وقوة الاحتكار لديهم عادة ما تمكنهم من التصرف هكذا.
التطور التاريخي لدور الدولة في العصر الحديث :
تشكل الدولة مؤسسة حاضنة وناظمة لكافة التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية المندرجة تحت سيادتها, وتختلف الطرق التي تمارس من خلالها الدولة دورها تبعاً لسياسة هذه الدولة وظروفها. وقد مرت وظائف ومهام الدولة بتغيرات كبيرة منذ نشأتها وحتى عصرنا الحاضر, ونلاحظ أنه لم يكن للدولة في بداية ظهورها مهام اقتصادية مجتمعية, وتميز دورها خلال المراحل التاريخية الأولى بانحساره في دور حفظ الأمن وجمع الضرائب وحماية مصالح الطبقة المسيطرة. وقد حافظت الدولة على هذا الدور حتى أواخر حقبة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الإقطاعية وقيام الثورة البورجوازية الرأسمالية ، حيث بدأت وظائف الدولة بالتشعب مع ظهور تجمعات الحرفيين المعزولين خارج الإقطاعات الزراعية, لاسيما وأن ذلك قد ترافق مع بروز الحاجة لوجود سلطة مستقلة بعد تبلور التناقضات بين مصالح السلطات الدينية والسلطات الإقطاعية حول الملكية الاقتصادية, حيث قامت الثورة البورجوازية الرأسمالية التي أعادت الإمساك بزمام السلطة معطية للدولة بُعدها المجتمعي.
ومع بدء البرجوازية في البحث عن أسواق لتصريف منتجاتها ومصادر للمواد الخام الأولية لتشغيل مصانعها وولادة الجيش كأداة قمع داخلية وخارجية بيدها, اتسمت وظائف الدولة لأول مرة بالطابع الاقتصادي, من خلال دورها كباحث عن الأسواق الخارجية ومراقب للسوق الداخلية غير معني مباشرة برسم السياسات الاقتصادية.
وفي العقود الأولى من القرن العشرين تعرض العالم لأحداث هامة كان لها الأثر الأكبر في إعادة النظر بمسألة تولي الدولة لدور اقتصادي اجتماعي مؤثر والتوجه نحو تدخل الدولة في الاقتصاد, ابتداءً من ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917, ووقوع أزمة الكساد الاقتصادية الرأسمالية الكبرى خلال الفترة (1929 – 1933), مترافقاً مع إتمام الاتحاد السوفيتي بنجاح لأول مرة خطط تطوره الاقتصادي الخمسية التي كانت تحت إشراف الدولة, بالإضافة لنشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية والآثار الهامة التي خلفتاها على مختلف دول العالم.
وفي فترة ما بين الحربين العالميتين بدأ التوجه لتدخل الدولة في الاقتصاد في الدول الرأسمالية ولكن هذا التوجه لم يتمايز وتظهر ملامحه بشكل جلي إلا بعد الحرب العالمية الثانية, حيث تقاسمت المنظومة العالمية بعد الحرب ثلاثة نماذج من الدول:
- النموذج الأول: نموذج دولة الرفاه (الدولة الكينزية), التي قامت في الدول الصناعية المتقدمة, وبشكل خاص في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية, وقام هذا النموذج تحت هاجس تعمير ما خربته الحرب, ومنافسة النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي, على تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي.
- النموذج الثاني: النموذج الاشتراكي, والذي كان موجوداً في الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا, وهو يقوم أساساً على توجيه تطور الاقتصاد بكامله من قبل الدولة, حيث تسود الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.
- النموذج الثالث: النموذج التنموي, الذي ساد في الدول النامية حديثة الاستقلال, حيث كان تدخل الدولة في الاقتصاد قائماً من منطلق تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتطور السريع واللحاق بركب الحضارة.

فبعد الحرب العالمية الثانية ترسخ الاعتقاد في الأنظمة الرأسمالية بشرعية تدخل الدولة في الاقتصاد لمكافحة البطالة ودعم النشاط الاقتصادي ومواجهة التنافس مع النظام الاشتراكي القائم في الاتحاد السوفييتي, وبأن النظام الرأسمالي يتطلب قيام الدولة بدور الموازن الموضوعي بين تقلبات قوى الطلب الكلي وقوى العرض الكلي إذا ما أُريد تجنب الوقوع في أزمات اقتصادية كالأزمة الاقتصادية الكبرى (1929 – 1933), الأمر الذي أورده جون مينارد كينز في نظريته العامة للنقود والفائدة والتوظيف عام 1936.
وبذلك وجهت النظرية الكينزية ضربة في الصميم للنظرية الرأسمالية الكلاسيكية التي تقوم على مبدأ الممارسة الحرة للمنافسة في السوق والذي تُحقق فيه اليد الخفية التوازن المستقر, وبُدئ بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية اعتماد سياسات اقتصادية ومالية تؤدي الدولة من خلالها دوراً أساسياً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي, وتزايد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي, وتزايد الإنفاق الحكومي, وتنوعت مجالاته خاصة في مجال الخدمات والضمان الاجتماعي.
وخلال الخمسينات والنصف الأول من الستينات أزيح نموذج كينز القديم الذي عني بالدرجة الأولى بوسائل تجنب الأزمات الدورية, لتحل محله الكينزية الديناميكية (الحركية), التي عُنيت بتنفيذ سياسات حكومية واعية تتعلق بتخطيط الاقتصاد في الأمدين المتوسط والبعيد إلى جانب السياسات الاقتصادية قصيرة الأمد, وهو ما عرف كمصطلح بالتخطيط التأشيري (التوجيهي). وعاشت الرأسمالية خلال الفترة (1945 – 1970) عصر ازدهارها الذهبي تحت ظل دولة الرفاهية, إذ تحقق التوظيف الكامل تقريباً, واتسم الاقتصاد بدرجات عالية من الاستقرار, ولم تتجاوز نسبة التضخم 2.5%, كما لم تتعدَ نسبة البطالة 3%, وحقق الاقتصاد نمواً وصل معدله السنوي إلى 4%.
ولكن "التضخم المنظم" الذي أوصى به كينز والذي يعتبر ذروة الحكمة في السياسة الاقتصادية لرأسمالية الدولة الاحتكارية, قد بدأ في أواخر الستينات بالتحول إلى "تضخم متراكم", ليتطور خلال مطلع السبعينات إلى "تضخم جامح" لم يعد من الممكن السيطرة عليه, وشهدت البلدان الرأسمالية في ظل ظاهرة "الركود التضخمي" أزمة اقتصادية حادة في أواسط السبعينات تجلت بنمو التضخم والبطالة معاً, مما وجه ضربة قوية لمقولة معالجة التضخم بالبطالة أو معالجة البطالة بالتضخم, وهي المقولة التي شكلت الأساس النظري للكينزية. وبدأت معدلات النمو بالتراجع, وازدادت نسب العجز الداخلي والدين العام إضافة لزيادة معدلات البطالة والتضخم. وفقد النموذج الكنزي فعاليته في ضمان التوازن الاقتصادي العام وتخفيف الأزمات الدورية, وفقدت آليات التدخل الحكومي دورها في ضمان استقرار النمو وتحقيق التوظيف الكامل.
ظهور الليبراليون الجدد :
هنا اندفع كلاسيكيو الاقتصاد السياسي للبرجوازية (الليبراليون الجدد) في تقديم برامجهم التي تجمع بين آلية السوق التلقائية وبين أساليب التنظيم الحكومي غير المباشرة, وتعتمد على تقليص دور الدولة على الصعيد الاقتصادي, وتحميل تدخلها في الاقتصاد مسؤولية المتاعب والأزمات. وانتصر تيار الليبرالية الاقتصادية الجديدة على الكينزية, بانتصار "تاتشر" في الانتخابات البريطانية عام 1979, وبنجاح "ريغان" في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1980. واعتبر الليبراليون انهيار النموذج الاشتراكي متمثلاً في سقوط الاتحاد السوفيتي انتصاراً للاتجاه الليبرالي الجديد, والذي ترافق معه فشل خطط التنمية في بلدان العالم الثالث والتي بدأت تعاني من متاعب وأزمات اقتصادية حادة.
وبذلك بدأ في العالم بأسره عصر جديد أهم سماته حرية السوق وإطلاق المبادلات وإعلاء شأن التنافس وإزالة الحدود. والاتجاه السائد عالمياً اليوم هو أشد تيارات الليبرالية تطرفاً, وهو يروج للعمل في اتجاه تحجيم دور الدولة وتقليص تدخلها في النشاط الاقتصادي, والمناداة بإعادة توزيع الدخل والثروة لصالح أصحاب رؤوس الأموال بتخفيض الضرائب على الدخول والثروات الكبيرة وبيع مؤسسات الدولة ونقل ملكيتها للأفراد.
ويمكن تلخيص أهم العوامل التي ساهمت تدعيم اتجاهات التيار الليبرالي وزيادة تطرفه واتساع انتشاره عالمياً في العقود الأخيرة بما يلي:
1. تراجع الكينزية والأزمات التي عانت منها الدول الرأسمالية في السبعينات, والتي ألقي اللوم فيها على السياسات الاقتصادية التدخلية للدولة.
2. الانتكاسات التي عانت منها الدول الأخرى غير الرأسمالية, من خلال سقوط الاتحاد السوفيتي في النموذج الاشتراكي, وتردي أوضاع بلدان العالم الثالث وفشلها في تحقيق التنمية المنشودة في النموذج التنموي.
3. وجود الولايات المتحدة الأمريكية على قمة النظام الرأسمالي, بجميع ما تمتلكه من قوة عسكرية واقتصادية, وما تمتلكه من إمبراطوريات إعلامية فاعلة على الساحة الدولية.
4. التقدم العلمي والتكنولوجي, خاصة في وسائل الاتصال والمعلوماتية والصناعات الالكترونية, والذي أعطى للتوجهات الليبرالية الجديدة قدرة هائلة على التأقلم والتكيف.
5. تعاظم دور الشركات متعدية الجنسية والتي لا يتفق وجودها ومكانتها في الاقتصاد العالمي مع سياسات تدخل الدولة في الاقتصاد.

وهكذا ساد مرة أخرى الفكر القائل «دعوا المنتجين يعملون بحرية فإذا فشلوا فسوف يتحملون نتيجة فشلهم ويتركون ساحة السوق، وهكذا يعمل الناس ويفكرون وينتجون ويتعاقدون». وطبعاً النتيجة الطبيعية للفلسفة الليبرالية هي الفردية أو الشخصية كما هي عند فولتير؛ وعبر عنها مرة أخرى آدم سميث: «إن من يعمل للمصلحة الشخصية يعمل في الوقت نفسه لمصلحة المجتمع». وبالتأكيد فإن الفردية ترتبط بالنفعية التي تجد مصدرها عند بنتام في الفلسفة النفعية؛ والذي حدد النظرة والقيم الشخصية التي تقود السلوك الإنساني في النظام الرأسمالي (المدرسة الحدية ومدرسة المنفعة).
وبناء على هذه الأيديولوجية فإن غائية الأهداف تنبع من العقلية الفردية، وتقترن بالنواحي السيكولوجية لذاتية الفرد، من حيث الرغبة والسعي نحو تحقيق الحد الأقصى من الأرباح والإشباع.
ومحصلة ذلك أن عمل الملكية الخاصة سيحقق المنفعة الخاصة والعامة ، وما على الدولة إلا حماية حق الملكية . فالأساس القانوني للنظام الرأسمالي يتمثل في حق الملكية من جانب ( رأس المال للرأسماليين ) ، والعلاقات التعاقدية من جانب آخر، بمعنى أن العمل يصبح سلعة تبادل لها ثمن، وفي إطار هذه القواعد يقتصر دور الدولة على تحقيق التوازن بين المتعاقدين ولا تتدخل في الحياة الاقتصادية.
وعمليات الإنتاج والتوزيع في النظام الرأسمالي تتم بطريقة طبيعية من خلال الميكانيزم والأداء لجهاز الثمن عن طريق السوق، وهنا نلحظ أن المشكلة الاقتصادية قد حصرت في موضوعي الندرة والمنفعة، ومعالجة أي اختلال فيهما يكون عبر ميكانيزم الأثمان في السوق، ولا يجوز للدولة أن تتدخل ولا بأي شكل من الأشكال.
هذا المنطلق الفكري وعناصر تكوينه حاولنا عرضه بشكل مركز جداً وبكل موضوعية لإبراز نقطة هامة فيه فقط، هي فلسفة إبعاد الدولة عن الحياة الاقتصادية. وهذه بالتأكيد تشكل فرضيات لابد من اختبارها على حياة المجتمعات لتؤكد صحة الاستدلال، فأين هي من ذلك؟
إن كل الأزمات التي مر بها العالم لم تصحح مطلقاًَ عبر ميكانيزم الأسواق، إذا «أين هي الأيدي الخفية» ؟!
وإن ما كان يجري هو تلافي نتائجها المدمرة عبر تدخل الدولة، كما حدث في الأزمة الراهنة لعام 2008. وهنا نرى مرة أخرى العودة لتدخل الدولة المعتدل وفق فلسفة ابن خلدون.
وإذا كان ما عرض أعلاه ليس سوى إشارات بسيطة للدلالة على أن فرضية عدم تدخل الدولة ليست استدلالاً، فإن النقطة الأهم هي المنهج العلمي، إذ إن التوصل إلى استدلال علمي وبناء قانون مطلق على أساسه يفرض أن تكون عينة المشاهدة ممثلة للمجتمعات ككل، فهل ما يجري في الغرب يمثل مجتمعات العالم ككل؛ لنستدل منها على إنهاء دور الدولة الاقتصادي؟ أو ليست تجربة «اقتصاد الرفاه» جديرة بالمناقشة؟ أو ليست معاناة أكثر من مليار إنسان مهدد بالموت جوعاً في الدول النامية جديرة بالمناقشة؟ هل ميكانيزم السوق قادرة على حل مشكلتهم وإبعاد خطر الجوع عنهم؟
ثم إن هناك معطيات هامة للقرن الواحد والعشرين، ففي بدايته تدلل عليها ثورة المعرفة وموقع الإنسان، فالمعرفة أضحت أحد عوامل الإنتاج الهامة، وهي تتكون باستمرار بخلاف عوامل الإنتاج ذات الموارد المحدودة كالأرض، وبعرضها غير المستنفد فإنها تحل مشكلة الندرة. وموقع الإنسان منها لم يعد مجرد أحد عوامل الإنتاج، بل هو محور العملية الإنتاجية، ومن أجله تجري، وتفعيل هذا الدور لن يكون إلا بالدور الاقتصادي الاجتماعي الفاعل للدولة.
إن معطيات القرن الواحد والعشرين وثورة المعرفة تخلق معها أنظمة جديدة للاقتصاد السياسي، ولم يعد من المقبول وضع حالة استاتيكية على الفكر عبر تمجيد الذات الغربية أو الذات الخلدونية ( نسبة لابن خلدون  )، من خلال الإصرار على معطيات فكرية متناقضة مع الوعاء المتلقي المتجسد في مجتمعات العالم. تمجيد الذات الغربية هذا يريد منا الاعتراف  ووضع أفكار العالم المتبقي في قمقم، خدمة لمصالح دول معينة.

وبالخلاصة وجدنا أن  ابن خلدون دعى لتدخل الدولة بشكل معتدل ورعاياتها للأفراد ومعاشهم وإشرافها على العمران بشكل يحقق العدل والانتظام للجميع ، فهو لم يفرط في الحرية الفردية ، ومن جانب آخر لم يسمح للفردية أن تعمل على هواها ، فهذا يجانب العدل الذي هو أحد  أهم أسس العمران عند ابن خلدون .

وفي الختام كان كل ما سبق جولة وجيزة في أفكار ابن خلدون المالية والاقتصادية وآثارها في العمران والمجتمع ولاسيما النمو الاقتصادي والاجتماعي ، وجولة سريعة في الفكر الاقتصادي الغربي بينت لنا مدى بعد نظر ابن خلدون في معالجته لبعض القضايا المالية والاقتصادية وانعكاساتها على الدولة والمجتمع، وأظهرت لنا هذه الجولة السريعة كيف أن أفكار هذا المفكر العربي ومقولاته سبقت عصره فأتت بمقولات يعتبرها الفكر الاقتصادي الحديث من نتاجه في حين أن ابن خلدون قد قالها منذ مئات السنين.‏



تعليق بالفيس بوك
0 تعليق بالايميل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 

عـــن المـــدونــة

مدونة خاصة بتفعيل الفكر التغييري ، على أساس أن تغيير ما بالأنفس أصبح علما يمكن التحكم به .

عــــن الدكتـــور محمــد إقبـــال

محمد إقبال الخضر - تولد سوريا - دير الزور - 1966--- دكتوراة في الاقتصاد تخصص تنمية وتخطيط . من جامعة حلب . ماجستير دراسات جدوى وتقييم شركات ... مدرس في قسم الاقتصاد - كلية الاقتصاد - جامعة دمشق - مدرب ف ي مجالات التنيمة الإدارية والبشرية

مــن أيــــات الــــذكـر الـحـكـيــــم

    ( ........ وَلَـوْ أَنَّهُــمْ فَعَلُــوا مَـا يُـوعَـظُــونَ بِـهِ لَـكَانَ خَـــيْرًا لَــهُـمْ وَأَشَــدَّ تَــثْبِيــتًا) [سـورة النـساء : 66]
Free Joomla TemplatesFree Blogger TemplatesFree Website TemplatesFreethemes4all.comFree CSS TemplatesFree Wordpress ThemesFree Wordpress Themes TemplatesFree CSS Templates dreamweaverSEO Design