الدكتور محمد إقبال الخضر
this site the web

دور الدولة عند ابن خلدون [1] دراسة مقارنة


دور الدولة عند ابن خلدون [1]
دراسة مقارنة
إعداد الدكتور محمد إقبال
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
" الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة ، والقيام لله بطاعته ، والتصرف تحت أمره ونهيه ، ولا قوام للشريعة إلا بالملك ، ولا عزة للملك إلا بالرجال ، ولا قوام للرجال إلا بالمال ، ، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ، ولا سبيل  للعمارة إلا بالعدل ، والعدل هو الميزان المنصوب بين الخليقة ، نصبه الرب ، وجعل له قيماً وهو الملك .... فهذه ثمان كلمات حكيمة سياسية ، ارتبط بعضها ببعض ، وارتدت أعجازها إلى صدورها ، واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها "
ابن خلدون – المقدمة


مقدمة :
عالج ابن خلدون موضوع تدخل الدولة وحدوده باستخدام عدة مصطلحات أهمها الجباية وأحوالها (من حيث القلة والكثرة وأثر ذلك في الدولة والمجتمع والعمران) وما يقصده بالعمران في هذا المجال هو البناء التنموي الاقتصادي والاجتماعي الذي يجري في الدولة على نحو طبيعي بالمبادرات الفردية.‏
تعريف بمصطلحات ابن خلدون :
ومصطلح الجباية عند ابن خلدون يقابل المصطلح الذي تستخدمه الدول في الوقت الحاضر، أما مصطلحا الوزائع والوظيفة اللذان استخدمهما في مجال جباية الأموال فهما على الأغلب مصطلحان خاصان به، ولم نجد لهما في المؤلفات الحديث أي قرين أو شبيه على نفس المعنى الذي استخدمه ابن خلدون . وقد يكون هذان المصطلحان معروفين في زمنه ويجري استخدامهما في هذا الصدد وعلى هذا تم استخدامهما عنده.
والوزائع مفردها وزيعة وتعني لغوياً ما يتوزع على الأشخاص من الأموال، وهذا معناه بمصطلحاتنا المطرح الضريبي أي الموضع الذي تطرح عليه الضريبة سواء أكان هذا المطرح الضريبي إنساناً أو زرعاً أو حيواناً أو إنتاجاً أو نتاجاً.
أما مصطلح الوظيفة فيتحدد عند ابن خلدون بما يتعين على المطرح الضريبي من مقدار معين من الأموال أو مايقابلها مما يقوم بمال وينبغي دفعه للسلطان أو الدولة في أوقات معلومة أو معاملات معينة.
وسندرس دور تدخل الدولة وأثر ذلك عند ابن خلدون من خلال تجميع أفكاره في عدة مواضيع متنوعة لكنها تدور كلها حول محور واحد وهو : ما هي حدود تدخل الدولة عند ابن خلدون ، وما فوائد  ذلك وأضراره  .



تعريف ابن خلدون للدول :
يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها « كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية ، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية ، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها  .
قانون السببية عند ابن خلدون :
مفاده أنَّ الوقائع الاجتماعية والأحداث التاريخية خاضعة للحتمية، وليست بفعل المصادفة لارتباط الأسباب بالمسببات،والسبب عند ابن خلدون النظر في الأسباب ، كما استخدمها القرآن الكريم للوصول إلى الحكم دون البحث في ماهية الشيء أو وجوده ، كما يفعل الفلاسفة الذين يبحثون في ماهية الله ،وهذا منهي عنه في الإسلام.

قانون التشابه عند ابن خلدون :
هو التشابه بين الماضي والحاضر ، وأنَّ المجتمعات البشرية تتشابه من بعض الوجوه، ويرجع هذا التشابه إلى :
1-                                    الوحدة العقلية للجنس البشري .
2-                       ميل الإنسان إلى التقليد، ويتجلى هذا التقليد في :
أ- تقليد الناس لأصحاب السلطة .
ب - تقليد أصحاب السلطة لأصحاب السلطة السابقة.
ج - أنَّ المغلوبين أصحاب الدولة التي زالت وانتهت يقلِّدون أصحاب الدولة الجديدة.

والتقليد عند ابن خلدون قانون عام يدفع بحركة التطور إلى الأمام ،لأنَّ التقليد يكون للأفضل.



قانون التباين عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أنَّ المجتمعات ليست متماثلة بصفة مطلقة ، بل توجد بينها فروق يجب أن يلاحظها المؤرخ ، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤرخين عدم إدراكهم لهذه الفروق

ضرورة الدولة عند ابن خلدون:

يرى ابن خلدون أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الانتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده،لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده ،فلابد من تعاونه مع رفاقه.

والإنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه الإنسان ،لذا لابد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر،وهذا ما أسماه ابن خلدون بـ «الوازع»، أو «وازع حاكم» ، أي (السلطة الرادعة) ، ولها القوة الرادعة في منع الناس من قتل أو إيذاء بعضهم البعض ،حيث أنَّ العداوة والعنف سائدتان في طبيعتهم الحيوانية ،وهذه السلطة تكون في يد الملك أو السلطان.


أسس الدولة عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن :
أولهما : الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.
وثانيهما : المال الذي هو قوام أولئك الجند ، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.

فالدولة في أولها تكون بدوية ،حيث يكون الإنفاق معقولاً ،ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف ، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة ، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف ، وينتشر الإسراف بين الرعايا ، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة ، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة ، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب ، فيختل اقتصاد البلاد ، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية ،ولذا يضطر إلى الاستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم ،فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.

مفهوم العصبية عند ابن خلدون:



إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب ، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحلف ، وفي مواقع أخرى نجد ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة، وهم من يُطلق عليهم اسم «المصطنعين إلى العصبية» ،أمَّا النسب فيعتبره أمر وهمي فائدته هو الترابط الذي يوجده ، وبهذا يكون معنى العصبية عند ابن خلدون مرادف لمفهوم العصبية ، وبهذا لم يخرج عن المفهوم الإسلامي الذي نبذ العصبية القبلية .
انظمة الحكم عند ابن خلدون


لقد حدَّد ابن خلدون أنظمة الحكم بثلاثة  :
1.    حكم يستند إلى شرع الله «الخلافة».
2.    سياسة عقلية ، وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط ،واستشهد بحكومة الفرس.
3.    سياسة مدنية، وهي مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة ، وهي بعيدة الوقوع.
ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة أنَّ الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع العمران ،هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم وسلامة مصيرهم في آخرتهم ، فيقول : «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ،فهي في الحقيقة خلافة عند صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به .
ويبين ابن خلدون أنَّ وظيفة الخلافة دينية اجتماعية سياسية ، وذمَّ الملك القائم على العصبية ،لأنَّه يؤدي إلى القهر ، ورفض المُلك القائم على السياسة وحدها لأنَّه مجرد من الصبغة الدينية التي نظَّمتها شريعة السماء في حراسة نور الله ، ويستشهد ابن خلدون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ،فيذكر قوله تعالى : (ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّما هي أعمالكم تُرد إليكم .
وبيَّن ابن خلدون سبب تسمية الخليفة بذلك بأنَّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض لقوله تعالى : (إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فالله جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ،ويردهم عن مضارهم.
وبذلك يتفق مع الإمام الماوردي في توصيف الخلافة بأنَّها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.

نظرية الدولة عند ابن خلدون:
لقد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو ، ثُمَّ يهرم ليفنى. فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً ،وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً ،لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عاماً ، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب مستشهداً بقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة ، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة ، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى : (حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ، ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل ولا عرفه. وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل : المرابطين والموحدين والمرينيين في المغرب ، وملوك الطوائف في الأندلس ، والحمدانيين في حلب .

علاقة الدولة بالاقتصاد (الثروة بمفهوم ابن خلدون ) :
تقدّم معظم الدراسات الخلدونية صورة لعلاقة السلطة بالثروة مرسومة بخطوطٍ قاتمة ألوانها الثروة المتحولة إلى الترف مُفسد الأخلاق لدى صاحب الملك وحاشيته ومن أبقاهم من أهل عصبيته فتؤول بالدولة إلى الهرم ثم الانقراض. وتبقى عوامل الدعم التي للثروة في بناء وازدهار الدولة، في تلك الأبحاث، ضمن إطار الملامح العريضة. ولما كان للتوازي بين الدورين دور البناء ودور الدمار من أهمية في الفكر الخلدوني أي كون الثروة من طبيعة الحكم وأنها هي التي تقود إلى خرابه أيضًا، فإن لازدواجيتها أهميةً تؤكد صحة وواقعية نظريته من أن الدولة شبيهةٌ بالكائن الحي وأن لها عمرًا يقدّر بمائة وأربعٍ وعشرين سنة، ثم إن هذا التوازي يبقيه على انسجامٍ مع تحيّزه للمنطق الأرسطي في أن لكل معلولٍ علّة، فللازدهار علة وللانهيار علةٌ أيضًا.
وقد اكتفى البعض بالنظر إلى الثروة والترف على أنهما علّة فساد أخلاق الحاكم وحاشيته وما ينجم عن ذلك من خراب. غير أن هذا القول لا يراعي أمرين أساسيين في النظرية الخلدونية: أولهما أن السلطة لا تقوم على الأخلاق، بل على القوة والقهر، وثانيهما أن القيم الأخلاقية وحتى الدينية ضروريةٌ في الدولة في غير إطار ممارسة السلطة. والمثل على ذلك كلامه عن الظلم إذ ينظر إليه كأحد عوامل هرم الدولة أولاً وآخراً. ولا شك في أن حضور الدين في مرحلة الاستيلاء على الملك هو –إلى جانب العصبية- عماد "المطالبة وجمع القلوب وتأليفها معونةً من الله في إقامة دينه" وهو "يزيد الدولة قوةً على قوة العصبية التي كانت من عددها" (عودة ، ص 124 ) . لكن ابن خلدون لا يأتي بالذّم واللوم على فساد الأخلاق من الناحية الخلقية والدينية بقدر ما يعتبره واقعًا بالحاكم إلى إهمال شؤون الحكم وظلم رعيته.
لقد لاحظ كثيرا صاحب المقدمة ازدواجية في دور المؤسسة وأدوات الحكم في البناء والتدمير أيضًا، وتُفهمه هذه الازدواجية طبيعة الحكم الظاهرة في العلاقة بين السلطة والاقتصاد ( الثروة حسب تعبير ابن خلدون ) [2] . وهو يُكثر من الأمثلة على ذلك في تاريخ الدول: الفرس، بنو أمية، العباسيون والترك... إلخ ليستنتج أن المؤسسات وأدواتها تعمل بدايةً على هدم العصبية التي قام عليها الحكم إلى أن يستتب الأمر للحاكم، ثم تنقلب عليه شيئًا فشيئًا فتحجُرُه وتعزله عن التفاعل المباشر مع رعاياه وولاته دافعةً به إلى التمتع بترف الحكم وثماره. أما هدفها فهو إقامة عصبيةٍ جديدة تقضي على الأولى وتدّمر من كانت تدين لها بوجودها. فهل هذا من طبيعة العصبية، أم أن الثروة ( الاقتصاد ) هي عماد استمرارية السلطة فتذهب هذه بذهاب تلك؟
يطرح هذا التساؤل قضية أساسية على الفكر الخلدوني تتعلق بمفهوم وطبيعة العصبية، وهي، وإن لم تكن من صلب موضوع بحثنا الآن، إلا أن الإشارة إليها هنا ضرورية لفهم كثيرٍ من النصوص فهمًا يتفق مع المنظومة الفكرية بأكملها. فمن يقول بالعصبية رباطًا قائمًا على قرابة الدم إنما يلغي دور المؤسسات الضرورية لقيام الحكم ولا يعطي الاهتمام الكافي لما يسعى إليه الانفراد بالحكم الذي يحمل الحاكم على القضاء على بني عصبيته أو إبعادهم عن منافسته. فهل يصح، والحالة هذه، فهم العصبية على أساسٍ عرقي؟ يُضاف إلى ذلك أن تاريخ الممالك يُظهر حرص السلطان على الاستعانة بالغرباء، فيكونون من صنائعه. من هنا كان لا بد من فهم العصبية على أنها تضامن، أي عملية اجتماعية، أساسها المصلحة والولاء، بدليل أنها هي التي تُنشئ تضامنًا نقيضًا لولي نعمتها. (غانم هنا: الفلسفة الاجتماعية، دمشق 1989، ص 72 وما يتبع).
والثروة أيضًا من طبيعةٍ اجتماعية كونها نتاج فعل الإنسان على  الطبيعة، فتأتي عنه الخيرات المادية، أو نتاج تفاعل البشر مع بعضهم البعض كما هي الحال في التجارة والوظائف، أو نتاج فعلهم على أنفسهم الظاهر في الناتج العلمي والأدبي...إلخ . وحينما يعتبر ابن خلدون أن الثروة تغذّي السلطة في كافة أطوارها إلى أن تصبح ترفًا، وهذا، كما يقول، من طبيعة الملك، فإنما يشير بوضوحٍ إلى اجتماعية الثروة كعامل بناءٍ ودمارٍ أيضًا. وما لهذه الثروة من قيمة إلا في العلاقات الاجتماعية ومنها علاقة السلطة. ولعل ابن خلدون أول من نظر إلى اجتماعية الثروة من بين القدماء في آثارها على السلطة السياسية بغير هدف العبرة والتبصر موضّحًا أن لكل دولة حدودًا زمنية من الحياة يضعها الترف حيث لا تكون نتيجة الثروات أو الحروب.
عمر الدولة وأطوارها ( مراحلها ) عند ابن خلدون :
تقوم الدولة ، بمفهوم ابن خلدون ، بالقبيل والعصبية وبالدعوة الدينية وتستولي على عددٍ محدد من الممالك والأوطان. وللسلطة فيها طبيعةٌ خاصة مقوماتها الانفراد بالمجد والثروة ثم الدّعة والسكون إلى أن تتحول الثروة إلى ترف ، ثم  إلى المرض الذي يدبّ في جسم الدولة، ويتم هذا كله على مراحل سمّاها أطوارًا يعقب أحدها الآخر وهي بمجموعها خمسة أطوار: الأول طور الظفر والاستيلاء على الملك، الثاني طور الاستبداد، الثالث طور الفراغ والدّعة، والرابع طور القنوع والمسالمة. أما الخامس والأخير فهو طور الإسراف والتبذير المؤدي إلى الشيخوخة فالانقراض ( عودة ، ص 121 وما يتبع).
أمامنا إذًا تسلسل حقيقي يثبته ويوثقه تاريخ الممالك وترتبط حلقاته ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض حيث تشكّل الثروة اللحمة فيما بينها. إنها من "توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة" ( عودة . صـ137) .
في الحلقة الأولى يكون  التقشف والبداوة  . وفي الحلقلة الثانية تكون النعمة . أما الحلقة الثالثة فهي من توابع النعمة وهي هنا "الثروة" بالمعنى الدقيق ( السيطرة على الاقتصاد ) . وهي التي تتحول إلى ترفٍ في الحلقة الرابعة كونها من توابع "النعمة والثروة" فتصبح "حضارةً" وهذه من توابع الترف. ويعرّفها بالقول: "إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع في وجوه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله" ( عودة صـ136 ). ولا يبخل ابن خلدون في ذكر شواهد على ذلك من أعراس المأمون وولائم الحجاج وأعطية بني أمية والعبيديين وملوك الطوائف.
إذًا تلازم الثروة الملك بكافة مراحله كونها من توابعه. لا بل إن الترف نفسه إنما "يزيد الدولة في أولها قوةً إلى قوتها" ( عودة صـ 137) وذلك "بكثرة التناسل والولد والعمومية. لقد كثرت العصابة واستكثروا أيضًا من الموالي والصنائع (...) واعلم أن سببه الرفاه والنعيم" (المرجع السابق ، صـ 138). إذًا كان من الطبيعي أن تبقى الحاشية وفيةً لولي نعمتها في مرحلتي البداية والاستبداد فلا تتآمر عليه أو تقوم بوجهه. أما إذا شعر بانقلابها عليه ومحاولتها إضعافه وإغراقه في عزلةٍ من اللهو والمتع، فقد يحدث " أن يرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتلٍ أو برفعٍ عن الرتبة فقط، إلا أن ذلك في النادر الأقل، لأن الدولة إذا أخذت في تغلّب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك وقلّ أن تخرج عنه" ( المرجع السابق ، صـ 147). ثم إن الثروة التي كانت قوةً للملك في البداية قد تكون قوةً له أيضًا في أول مراحل الترف حينما يُدرك أطماع الحاشية والوزراء فيضرب بقسوةٍ وبطش. لكنه لن ينجح في إحياء عصبية جديدة لأنه قضى على الأولى في سبيل الانفراد بالحكم، ولأن أبناءه يخذلونه، فهم الذين "نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والآظار وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسةٍ ولا يعرفون استبدادًا (...) إنما همهم في القنوع بالأبهة والتفنن في اللذات وأنواع الترف ( عودة ، صـ 147). ولهذين السببين "يكون التغلّب للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفراده به دونهم، وهو عارض للدولة ضروري" ( عودة ، صـ 147 ).
كانت الثروة عماد بناء أركان الدولة واستمراريتها بدواوينها وأجهزتها وغير ذلك. وبديهي هنا أن يكون الجيش أحد تلك الأركان خاصةً في الأطوار الثلاثة الأولى من عمرها. فالجيوش ضروريةٌ للغلبة على المدافع والممانع في عملية الاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة. وتبقى ضرورية للدفاع عن الحوزة والحماية. كما أنه لا غنى عنها في طور الاستبداد "لجدع أنوف أهل عصبية" الملك (عودة ، صـ 138) وصدّهم عن موارده وردّهم على أعقابهم. إنه يقاوم الأقارب "فيركب صعبًا من الأمر" ( عودة ، صـ139 ) فهم أكثر من الأباعد في هذا الطور. ويبقى صاحب السلطان بحاجة إلى العسكر حتى في طور الفراغ والدّعة فيدرّ عليهم بالأرزاق "وينفقهم في أُعطياتهم لكل هلال حتى يظهر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة" (عودة ، صـ 139). وحينما تصل الدولة إلى الطور الأخير طور الإسراف يُضيّع "من جنده بما أنفق من أُعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده" (عودة ، صـ139) فيتمكّن المنافسون والمتطلعون إلى السلطة من كسب ولائهم.
إن الثروة التي أُقيمت الدولة على أساسها ثم تحولت إلى ترف ودكّت أسس الحكم إنما تكشف عن طبيعةٍ خاصةٍ بها ليس من المبرر أن تُنسب إلى نظريات اقتصادية جديدة كي تظهر فعلها الحاضر في المجتمع وقدرتها على قلب الأحوال للوصول إلى القول بالقاعدة المادية للسلطة السياسية. فالثروة-المال تخضع لتجاذبٍ بين السلطة السياسية والاقتصادية يحاول فيه كل طرفٍ إخضاع الآخر لسيادته. نعم، لم يتعرض ابن خلدون إلى مظاهر تغلّب السلطة الاقتصادية حينما تصبح قوة استبدادٍ تهيمن على المجتمع وتسيّره بحسب مقتضياتها لا بل تدفع به وتتيح له استباحة دولٍ أخرى، لكنه في وصفه لتهاوي سلطة الثروة-المال أمام استبداد صاحب السلطان يظهر بوضوحٍ ما للاقتصاد من أهمية والسلطة على "عمر" الدولة وقد أدّى دماره إلى نهايتها.



[1] اعتمدنا في هذا البحث على نسخة مقدمة ابن خلدون التي صدرت عن لجنة البيان العربي ، بتحقيق علي عبد الواحد وافي . القاهرة  -  الطبعة الثانية 1965 م . ونشير إليها  ( وافي )
وعلى نسخة مقدمة ابن خلدون . دار العودة – بيروت – لبنان ، 1988 . ونشير إليها                   (عودة ) .
[2] نحب أن ننوه إلى أن ابن خلدون يستخدم مصطلح الثروة بمعنى الاقتصاد الذي نستخدمه في زماننا .
تعليق بالفيس بوك
0 تعليق بالايميل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 

عـــن المـــدونــة

مدونة خاصة بتفعيل الفكر التغييري ، على أساس أن تغيير ما بالأنفس أصبح علما يمكن التحكم به .

عــــن الدكتـــور محمــد إقبـــال

محمد إقبال الخضر - تولد سوريا - دير الزور - 1966--- دكتوراة في الاقتصاد تخصص تنمية وتخطيط . من جامعة حلب . ماجستير دراسات جدوى وتقييم شركات ... مدرس في قسم الاقتصاد - كلية الاقتصاد - جامعة دمشق - مدرب ف ي مجالات التنيمة الإدارية والبشرية

مــن أيــــات الــــذكـر الـحـكـيــــم

    ( ........ وَلَـوْ أَنَّهُــمْ فَعَلُــوا مَـا يُـوعَـظُــونَ بِـهِ لَـكَانَ خَـــيْرًا لَــهُـمْ وَأَشَــدَّ تَــثْبِيــتًا) [سـورة النـساء : 66]
Free Joomla TemplatesFree Blogger TemplatesFree Website TemplatesFreethemes4all.comFree CSS TemplatesFree Wordpress ThemesFree Wordpress Themes TemplatesFree CSS Templates dreamweaverSEO Design