الدكتور محمد إقبال الخضر
this site the web

دور الدولة عند ابن خلدون [2] دراسة مقارنة


دور الدولة عند ابن خلدون [2]
دراسة مقارنة
إعداد الدكتور محمد إقبال
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
 
المفاصل الأساسية في علاقة الدولة بالاقتصاد (الثروة ) :
المفصل الأول :
أول مفصل هو "اصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك" (عودة ، صـ 138). كان ذلك ضروريًا في طور نشأة الدولة واستتبابها. وقد اقتضى التوسعة عليهم وعلى الحاشية بالمال والجاه في طور الفراغ والدّعة؛ أما في الطور الخامس فإن صاحب السلطة كريم على بطانته، يقلدهم عظيمات الأمور، يستفسد لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه فيضطغنون عليه ويتخاذلون عن نصرته ( عودة ، صـ 139). فما سر هذا الانقلاب؟ كان هؤلاء المصنطعون يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر ( عودة ، صـ 144). أما بعد فساد العصبية وبعد أن استظهر العباس مثلاً بالعرب ثم "صارت الدعوة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات، صارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وغيرهم..." ( عودة ، صـ 145)، فهل لعلاقة الثروة-الترف بما يحدث لسلطة الدولة دور في ذلك؟

يبدو لأول وهلة أن ابن خلدون يعيد ذلك إلى فقدان العصبية "بضياع التناصر في ذوي الأرحام " والمخالطة بالرق أو الحلف فينزل منزلة العصبية لأن " أمر النسب وإن كان طبيعيًا فإنما هو وهمي" ( عودة ،صـ 145) وعندئذ يقوم الالتحام "بالعشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة" (الموضع نفسه). لكنه يقيم فرقًا جذريًا بين الاصطناع قبل الملك وبعده ليؤكد على عنصر اللحمة والقرابة بين المصطنع وصاحب الملك في فترة ما قبل حصول الرياسة ( عودة، صـ146) بينما جلّ من يصطنعهم بعد الرئاسة، خاصةً في دور الترف، هم من الأجانب الذين يكونون في مهاوي الضعة الذين لا يُبنى لهم مجدٌ كما بناه المصطنعون قبل الدولة ( عودة ، صـ 146). يستولي هؤلاء على مقاليد الحكم دون أن يشاركوا السلطان في اللقب الخاص بالملك ( عودة ، صـ 147) لأنهم لا يحاولون في استبدادهم انتزاع الملك ظاهرًا، بل "انتزاع ثمراته من الأمر والنهي والحلّ والعقد..." (عودة ،صـ 147 ) موهمين أهل الدولة أنهم يتصرفون عن سلطانه متجافين عن سمات الملك ليبعدوا أنفسهم عن التهمة بذلك فيتسترون بالاستبداد به بالحجاب الذي ضربه السلطان خوفًا من أن يُكشف أمرهم لأهل العصبية فيهلكون. وهكذا يُستبدل الحكم خفيةً وبحكمةٍ من قبل المصطنعين. إن الانقلاب هنا يقع بالدرجة الأولى بسبب طبائع المصطنعين وخبثهم؛ فهم غرباء ولا دافع لولائهم سوى النعمة والتحكّم بثروة الدولة.
المفصل الثاني:
يقع المفصل الثاني في مقومات الحكم الرئيسية وهي أن "الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يدٌ قاهرة. هذا معنى الملك وحقيقته" (عودة ، صـ 148). ولكن إن جميع هذه العناصر تُصاب بالوهن والشلل في طور الترف، فتشحُّ مقتضيات الترف عن الجيوش لينقلب ما كان حافزًا على الموالاة إلى نقيضه بالانتقال إلى من يؤمِّن للعسكر أرزاقهم وأُعطياتهم.
المفصل الثالث :
ثم إن الترف يُحدث خللاً مريعًا في جباية الأموال، وهذا هو المفصل الثالث، حينما تُستجّد حاجات وتتكاثر فتدفع صاحب الملك إلى الزيادة في الجباية لينفقها في خاصته وكثرة عطائه، ولاتساع وتضخم "ما تحتاج إليه الحامية من عطاءات ، والسلطان من النفقة، فيزيد من مقدار الوظائف والوزائع أولاً... ثم يزيد الخراج والحاجات" (عودة ، صـ 222). هنا تُلفِتُ النظر ملاحظة ابن خلدون أن "الجباية تقلّ وتكثر العوائد وتكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم" ( عودة ،  صـ 222 ). أليس لأنهم هم كسبة الأرزاق والدخل الثابت؟. وحينما يتراجع دخل الدولة إلى هذا الحد ويعمّ الكساد يتجه صاحب الدولة نحو الأسواق ويستحدث أنواعًا من الجباية ويغالي في زيادتها "فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران" (عودة ، صـ 222 ). كما أن ضيق الجباية يستدعي زيادة المكوث على بياعات الرعايا وأسواقهم وعلى تعدد تسمياتها والتبديل فيها ثم مقاسمة الجباة ما يختلسونه أو استحداث التجارة أو الفلاحة للسلطان ومزاحمة التجار الذي يلجؤون إلى التحايل على الجباية معتبرين أن حصة السلطان جزء منها. ويذهب السلطان إلى حد فرض أسعار البضائع ليشتريها بالرخص فينام التجار على بضائعهم وتبقى جامدةً ويخسر الإداريون مكسبهم ومعاشهم أو يُضطرون إلى بيع سلعهم على كساد.
وبما أن معظم الجباية هي من الفلاحين والتجار وقد وقعت عليهم تلك التقلبات، فإن الجباية تذهب جملةً أو تشحّ. ولا يهمل ابن خلدون قيمة ومصير التجار بالبضائع المستوردة من الخارج التي يستولي عليها الأمراء المتسلحون للتجارة والمتنفذون بالبلد فهم يفرضون الأسعار على مالكيها ويبيعونها بثمنٍ يحددونه هم أيضًا. وعندما يرى السلطان ما تجنيه هذه التجارة من أرباح "يضرب معهم بسهمٍ لنفسه" ( عودة ، صـ 224).
المفصل الرابع :
المفصلٍ رابع هو الظلم. وقد سبقت الإشارة إلى الناحية الأخلاقية في هذا الباب. غير أن أقسى مظاهر الظلم تظهر في العدوان على الناس في أموالهم لأنه يدمّر آمالهم في تحصيلها واكتسابها "لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم" ( عودة صـ 237). عندئذ لن يسعوا وراء اكتسابها، فتلحق من جرّاء ذلك الأضرار بالعمران ونفاق الأسواق فيعم الكساد ويهجر الناس إلى الأرياف طلبًا للرزق وينتقل سكان الحضر وهذا ما يلحق الأمصار بالخراب بسبب اختلال نسبة السكان مما يؤدي إلى وهن الدولة بأسرها فينقضّ عليها أعداؤها ويستولون عليها.
ثم يرسم ابن خلدون للظلم حدودًا بقوله: "لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحدٍ أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقًا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليه ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة. ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله" ( عودة ، صـ 228).
ثمّة سؤالٌ يطرح نفسه: هل يمكن إصلاح ما دبّ فيه الهرم؟ يأتي جواب ابن خلدون قاطعًا: "إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع" ( عودة ، صـ 232). فمهما حاول حاكم الارتفاع بوضع دولته الهرمة وإصلاحها فإن محاولاته ستبوء حتمًا بالفشل . ويضيف ابن خلدون قائلاً: "ربما يحدث عن آخر الدولة قوةٌ تُوهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل، فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إماضةً توهم أنها اشتعال وهي انطفاء" (عودة ، صـ 233).
ويقول صاحب المقدمة: " إذا كثرت المعاطب صار كثيرون من أهل الدولة ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر. ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته؛ وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لحالهم ودنياهم. واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسيرٌ ممتنع . فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك فلا تمكّنه الرعية من ذلك طرفة عينٍ ولا أهل العصبية... أما إذا كان... من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقلّ أن يُخلي بينه وبين ذلك... فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنًّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد ، وغيرةً من خدمته لسواهم... ثم إذا توهّمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطرٍ آخر، وهو في النادر الأقل، فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضًا أو بالقهر ظاهرًا... وإن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونه بالحاجة فغلطٌ ووهم" ( عودة ، صـ 225-226).

أثر تدخل الدولة في جباية الأموال على النشاط الاقتصادي :
وقد حلل ابن خلدون موضوع الجباية وفق نظريته في عمر الدولة والمراحل التي تمر بها . وفيما يلي خلاصة  تحليله لموضوع الجباية :‏
يبين ابن خلدون أن الجباية في بداية الدولة تكون قليلة المطارح، غير أنها كثيرة الجملة. فالدولة في البداية قليلة الصرف لا تكلف الناس إلا تكليفاً يسيراً بسبب قرب عهدها من البداوة والعصبية. والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس فيقل بذلك مقدار الوظائف وعدد الوزائع. غير أن الجباية في هذه المرحلة على قلتها تكون كثيرة الجملة بسبب قلة الصرف وقلة وجوه الإنفاق فيتوافر معظم مايجبى من الناس لدى الدولة. وقد نص على ذلك ابن خلدون فقال : ( إعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة ) ، ( المقدمة- ج 2- ص729 ) . 
أما أثر الجباية في المجتمع فيكون إيجابياً في حالة قلة الوزائع والوظائف وسلبياً في حالة تعدد الوزائع والوظائف. ففي الحالة الأولى يرغب الناس في العمل وينشطون إليه فيكثر الاعتمار وتدور عجلة الاقتصاد فيستريح الناس بما يعرض لهم من قلة في المغرم وبما يحصل لهم من كثرة في المغنم. ويقول ابن خلدون في هذا الصدد : ( وإذا قلت الوظائف والوزائع على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم ) ( المقدمة - ج2- ص730 ) .
غير أن الدولة ما تلبث أن تتخلى عن أخلاق البداوة وتنغمس في ترف الحضارة وينهض الملك المعضوض ومن ثَم تكثر الحوائج والعوائد بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف وعندها تفرض الدولة الضرائب الجديدة وترفع مقاديرها حتى تلبي الاحتياجات المستجدة وأوجه الإنفاق المتعددة فيقول ابن خلدون : ( فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم فيزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوث على المبايعات والأبواب... حتى تثقل المغارم على الرعايا ) ( وافي -ج2- ص730 ) .
وباستمرار هذه الحالة وتفاقمها تتأثر الحركة الاقتصادية إذ يقارن الناس بين المغنم الذي يأتيهم من أعمالهم وبين المغرم الذي يتوجب عليهم دفعه إلى الدولة فتذهب غبطة الناس بسبب ضآلة المغنم أو انعدامه فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار أي تقل الأعمال والمشروعات الاقتصادية المختلفة من تجارة وصناعة وزراعة فتنقص جملة الجباية بفقدان المطارح الضريبية فيقول ابن خلدون : ( ثم تزيد الوزائع عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته ) ( وافي -ج2- ص731 ).‏
ولا تزال جملة الجباية في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في ازدياد لما يعتقدونه من دعم جملة الجباية بها إلى أن ينقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائد إليها.‏

تدخل السلطان في التجارة وأثرها على النشاط الاقتصادي والجباية :
ويشير ابن خلدون إلى أنه حينما يقصر الحاصل من الجباية عن الوفاء بالحاجات والنفقات وتحتاج الدولة إلى مزيد من المال فنراها تلجأ تارة إلى وضع المكوس وتارة إلى استحداث التجارة والفلاحة على تسمية الجباية ( أي على اعتبار أنها ضرائب مباشرة تجبى من المستهلكين ) لما تشهد من حصول التجار والفلاحين على غلات واسعة مع يسار الأموال وكون الأرباح على نسبة رؤوس الأموال فتأخذ الدولة في اكتساب الحيوان والنبات وشراء البضائع وطرحها في الأسواق ظناً منها أن هذا يعظِّم المردود ويكثِّر الأموال ، غير أن هذا على رأي ابن خلدون غلط فادح يدخل الضرر على الرعايا من وجوه متعددة أهمها عدم حصول الناس على أغراضهم وقيامهم بالأعمال المماثلة التي يقوم بها السلطان لعدم قدرتهم على منافسة السلطان لقوته وكثرة ماله . فيقول ابن خلدون ( ولا يكاد أحدهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد ) . وهنا نجد ابن خلدون وكأنه يقول  بقاعدة [ دعه يعمل دعه يمر ] .‏
فضلاً عن أن السلطان ينتزع الحيوان والبضائع بثمن منقوص أو بأيسر ثمن إذ لا يجد من ينافسه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه وقد يجبر السلطان التجار على شراء المستغلات ولو أدى ذلك إلى كساد الغلات عندهم مما يوقع التجار في خسارة عظيمة.‏
ولكن ماذا تكون النتيجة....؟ فإذا ما قايس السلطان ( الدولة ) بين ما يحصل من الجباية وبين هذه الأرباح وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. هذا من ناحية ، وأما من ناحية أخرى فإن انعكاس ذلك على المجتمع سيكون سيئاً لأن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم في الفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت وكان فيها إتلاف أموالهم ومن ثَم خراب العمران.‏ فابن خلدون يوصي بعدم تدخل الدولة في العمل ( التجاري – الزراعي – الصناعي ) مباشرة ، والاكتفاء  بتحصيل الجبايات ( الضرائب ) بشكل معتدل ومتفق مع نسبة نمو الثروة عند الرعايا . وبرأيه هذا أصل من  أصول العمران أي التنمية .

دور الإنفاق الحكومي والتوازن  المالي عند ابن خلدون :
يبين ابن خلدون أن السلطان إذا احتجن الأموال أي أمسكها ( تم تقليل الإنفاق العام ) قلَّ ما في أيدي الحاشية والحامية ( المواطنين ) وانقطع ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفقاتهم وهم معظم السواد، ونفقاتهم ( هنا يقصد إنفاق القطاع العائلي ) أكثر مادة للأسواق مما سواهم. فيقع الكساد وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك، والخراج والجباية إنما يكونان من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح. ووبال ذلك كما يقرر ابن خلدون عائد على الدولة بالنقص لقلة الأموال العائدة للسكان بسبب قلة الخراج. فالدولة كما قال ابن خلدون هي السوق الأعظم وأم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخرج، فإن كسدت وقلت مصاريفها أثر ذلك في الأسواق، وأجدر فيما بعد أن يلحق بالدولة مثله أو أشد منه.‏
وهكذا يذهب ابن خلدون إلى أن الإنفاق العام هو الذي يحرك الدورة الاقتصادية ويساعد الأسواق على الانتعاش، وهذا مبدأ اقتصادي وصل إليه ابن خلدون بفكره الثاقب من خلال مشاهداته وخبراته وسفره في عدة دول ، أو في اطلاعه  على تاريخها . وهذا المبدأ ( مبدأ التوازن المالي وكيفية حقيقه ) لا ينسبه الاقتصاديون إلى ابن خلدون بل يعدونه من نتاج الفكر الاقتصادي الحديث. وقد اعتمدت كثير من الدول هذا المبدأ للعمل على تنشيط الوضع الاقتصادي في المناطق التي تقل فيها الأموال عن طريق طرح الأموال وذلك بخلق مشروعات مقصودة أو القيام بأعمال في المنطقة تعمل على التوظيف وإنفاق الأموال لتدور الحركة الاقتصادية في المنطقة، فتتحرك الأسواق وتنتقل النقود بين أيدي الناس ويتم تداول البضائع وتنشط القطاعات الاقتصادية المختلفة.‏

العدالة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية وأثرها على التنمية :
( ابن خلدون مفكر موسوعي ، ولم يكن مجرد منظر اقتصادي )
أن من أحد أهم معضلات عصرنا الحديث أن العلماء والمفكرين يعملون وينظرون كلٌّ في جُزُرِ تخصصه ، وغاب عنهم أن الواقع كلٌّ لا يتجزأ . إن هذا التجزيء الفكري للحقيقة والفكرة أدى إلى غياب الحكمة وبروز النظرية التي تعتمد فقط على ظاهر الأمر ، وتستخدم أحدث تقنيات العلم مما يجعل الأغلبية تنبهر بالتنظير الذي لا يعدو أن يكون فكرة غارقة في التحيز .
ابن خلدون لم يكن كذلك . فرغم أن عصره لم يكن يتمتع بالتقنيات الحديثة والنظريات الرياضية التحليلة ذات المعطيات شبه الحتمية ، إلا أنه ملك  الحكمة الكلَّية والنظرة الشمولية ، وتوصل مبكراً إلى أن العمران ( التنمية الاقتصادية ) لا يكون بالأموال فقط ولا بتوازن تدفقها ولا بحسن استثمارها ، بل لا يكون العمران أبداً  بلا عدل وعدالة وضبط للحقوق والواجبات ومساواة حقيقية فيهما . هذا الذي يحقق أولاً سعادة البشر وطمأنينتهم ، وبالتالي حُسنَ العمران ونماء الثروات . وما دفع ابن خلدون إلى ذلك إلا تأثره بالنظرة الكلية الشمولية للقرآن الكريم وللحديث النبوي الشريف اللذان هما المصدران  الأولان لثقافته وعلمه.
فقد قرأ في القرآن الكريم قوله تعالى ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ، ما لكم لا ترجون لله  وقارا ) ( سورة نوح /   ) .
وقرأ قوله تعالى ( ومن يتق  الله يجعل له مخرجاً ويرزقُهُ من حيثُ لا يحتسب ) ( سورة  /  ) .
وكان على البشرية  أن تنتظر خمسة قرون حتى قال  ذلك (  ول ديورانت ) في  مقدمة كتابة  قصة الحضارة . حيث قال : إذا  ساد الأمن بدأت الحضارة .
يعالج ابن خلدون هذا الموضوع لما له من أثر مهم في الاعتمار والعمران والجباية. ويبين في هذا الصدد أن عدوان الدولة على أموال الناس ، أو عدوان بعضهم على أموال بعض دون تدخل الدولة ونصرة المظلومين ، يقعدهم عن تحصيل المال واكتسابه، لأنهم يرون أن مصير ما يجمعون ذاهب إلى الانتهاب فتقعد همتهم وتذهب آمالهم ، وتنقبض أيديهم عن السعي والتحصيل ، فتكسُد الأسواق ويهاجر الناس إلى البلدان الأخرى ، فيخف ساكن البلد وتختل حال الدولة والسلطان ويتراجع العمران .
ويبين ابن خلدون أن وجوه الظلم عديدة فالظلم أعم من أخذ المال بلا عوض، فكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه في غير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع والقانون فقد ظلمه، ووبال ذلك عائد على الدولة بخراب العمران أي فشل التنمية.
فضلاً عن أن الظلم مؤذن بانقطاع النوع البشري. والله إنما حرم الظلم لما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه ،علماً بأن الشارع أكد على حفظ مقاصد الشرع الخمسة وهي: (الدين والنفس والعقل والنسل والمال). ويؤكد ابن خلدون أن من أشد الظلمات وأعظمها في فساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق لما يقرره من أن الأعمال من قبيل المتحولات. وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة عند ابن خلدون هو التسلط على أموال الناس بشراء مابين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان.‏

وبهذا يمكننا أن نعد ابن خلدون رائداً في علم الاقتصاد من ناحية، وفي علم اجتماع الاقتصادي من ناحية أخرى. أما بالنسبة إلى علم الاقتصاد، فلأنه فرغ من كتابة "مقدمته" في منتصف سنة 779 هـ (5) (الموافقة لسنة 1376 م)؛ وأن كتاب آدم سميث "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها" المعروف باسم "ثروة الأمم" والصادر سنة 1776 م قد تأخر أربعمائة سنة من فراغ ابن خلدون من كتابة "مقدمته"؛ علماً بأن آدم سميث يعد المؤسس الحقيقي لعلم الاقتصاد عند الغربيين. وأما بالنسبة إلى علم الاجتماع، فلأنه سبق أوغست كونت صاحب كتاب "دروس في الفلسفة الوضعية" الذي عاش في القرن التاسع عشر ( 1798 ـ 1857) ومن تلوه من علماء الاجتماع، بأكثر من أربعة قرون.‏

دور الدولة عند الاقتصاديين المحدثين :
( الليبرالية التقليدية –  التعديل  الكينزي - الليبرالية  الحديثة )
من طبيعة المذاهب السياسية والاقتصادية أن يكون الواقع المجتمعي هو حقل اختبارها الحقيقي؛ فهي ليست مجرد تنظيرات تجريدية حتى يمكن الاكتفاء بمعايرتها بالأقيسة المنطقية والموازنات الذهنية المجردة، إنما لابد من تفعيل منهجية الملاحظة والاستقراء، للتزود بالمعطيات الملحوظة عن هذه النظم والمذاهب في مختبرها المجتمعي، لاستخلاص المراجعات النقدية الواجب إجراؤها عليها بناء على ذلك الاستقراء.
وعندما نطالع تاريخ النظم السياسية، ونقف خاصة عند اللحظات المفصلية التي ميزت لحظات تطورها، سنلاحظ أن لحظة النقد غالبا ما تظهر في تاريخية هذه النظم كلحظة لاحقة لإشكالات وأزمات انبجست أثناء التطبيق ونتاجا له .
على مستوى الرؤية الاقتصادية ، وبتأثير الواقع التطبيقي ، عاب كينز على الليبرالية افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد ينبغي أن تعطى لهم حرية مطلقة في الفعل، أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائيا بناء على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم . وهذا  ما لم نجده مطلقاً عند ابن خلدون .
وقد أثبتت الأزمات ، التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي، أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي ( كما يحدث الآن في أزمة المالية العالمية 2008 – 2010 ) ، وهذا ما أكدته النظرية الكينزية من الناحية المنهجية ، التي نادت بضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة ، ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة.
اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي .
في هذا السياق اتجهت المدرسة الكينزية إلى إنجاز تعديل كبير في النظرية الليبرالية، حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانية "دعه يعمل دعه يمر"، مبلورة بذلك رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي. وهذا ما أسماه البعض بإنقاذ الليبرالية من فوضى الحرية، وإخضاع الفعل الاقتصادي لمنطق الدولة لا للمنطق التحرري الإطلاقي للسوق.
ومن المؤكد أن النظرية الكينزية لم تلغ الحرية الفردية مطلقا ، بل نادت بتدخل الدولة لترشيد كل شيء عن طريق ترشيد سياسة العمالة والفائدة والنقود ، وهذا هو جوهر النظرية . وهذا الاعتدال بين الحرية وتدخل الدولة هو ما وجدناه عند ابن خلدون ، وطبعاً مستخدماً مصطلحات عصره .
والواقع أن الكف عن حياد الدولة في الشأن الاقتصادي كان إجراء عمليا اضطرت إلى الالتجاء إليه دول عديدة مباشرة عقب أزمة 1929، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى "النيو ديل"، أي السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها الرئيس الأميركي روزفلت، وفكرة ضبط القوة الشرائية التي قامت بها حكومة ليون بلوم في فرنسا عام 1936.
ويمكن القول بلغة التعميم إن اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي.

وفي هذا الظرف الدقيق والحرج –أي ظرف الأزمة- كان لابد من انطلاق مراجعة نقدية للنظرية، وبالفعل برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار النظري الكينزي، حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لا يكمن فقط في ارتفاع سعر النفط، بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان الحل المقترح هو التقليل من هذه النفقات، والتراجع عن المقاربة الكينزية بالعودة إلى


للبحث بقية
تعليق بالفيس بوك
0 تعليق بالايميل

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 

عـــن المـــدونــة

مدونة خاصة بتفعيل الفكر التغييري ، على أساس أن تغيير ما بالأنفس أصبح علما يمكن التحكم به .

عــــن الدكتـــور محمــد إقبـــال

محمد إقبال الخضر - تولد سوريا - دير الزور - 1966--- دكتوراة في الاقتصاد تخصص تنمية وتخطيط . من جامعة حلب . ماجستير دراسات جدوى وتقييم شركات ... مدرس في قسم الاقتصاد - كلية الاقتصاد - جامعة دمشق - مدرب ف ي مجالات التنيمة الإدارية والبشرية

مــن أيــــات الــــذكـر الـحـكـيــــم

    ( ........ وَلَـوْ أَنَّهُــمْ فَعَلُــوا مَـا يُـوعَـظُــونَ بِـهِ لَـكَانَ خَـــيْرًا لَــهُـمْ وَأَشَــدَّ تَــثْبِيــتًا) [سـورة النـساء : 66]
Free Joomla TemplatesFree Blogger TemplatesFree Website TemplatesFreethemes4all.comFree CSS TemplatesFree Wordpress ThemesFree Wordpress Themes TemplatesFree CSS Templates dreamweaverSEO Design